|
الادب العربي الادب العربي , شعر , نثر , مقالات ادبية , قصائد |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
![]() |
المشاركة رقم: 11 | ||||||||||||||||||||||||||||
|
كاتب الموضوع :
علي الموصلي
المنتدى :
الادب العربي
![]() ميخائيل نعيمة ... المراحل \ ومضات من يشرب السم يمت طبقاً لنظام الحياة والموت . لأنّه يعاند ذلك النظام الذي لا يعرف معانداً . أما من يدرس الشريعة البشرية فيسرق رغيفاً ، فالشريعة من تلقاء نفسها لا تجعل ذلك الرغيف في فمه حجراً . ولا تقطع يده ولا تفقأ عينه لأنّه بسرقته الرغيف لم يعاند النظام السرمدي ، بل خرق نظاماً اصطلاحيّاً لا جوهر له من نفسه ، ولا له أُسُسٌ يقوم عليها سوى المصلحة البشرية الوقتيّة التي قد تكون اليوم غير ما كانت أمس . وغداً غيرها اليوم . ألا إن الناس يتستّرون بظلّ أصابعهم ، ويسيرون كلٌّ في سبيله قانعين ، مؤمنين أن السياج الذي أقاموه حولهم من الشرائع لا يترك منفذاً لمتمرّد ، ولا مهرباً لعاصٍ . وقد فاتهم أن أعصى العصاة والمتمرّدين هو الفكر الذي لا يحصره سياج ، ولا تقيّده شريعة ، ولا تغله أغلال . فمَن ذا من الناس تمكن يوماً من أن يقيّد فكره بوثاق فيحدّد مجراه ، ويكبح هواه ، ويدرّب خطاه ؟ إن هذا الفكر الذي لا يتقيّد بنظام سوى النظام الأكمل الأعلى هو مهبّ الرّياح التي تعصف بين الآونة والأخرى بأوضاع الناس وتقاليدهم وشرائعهم فتزعزعها وتقوضها . وكثيراً ما تقلبها رأساً على عقب ، فيحسب الناس مثل هذه العواصف ملمّة ، ويدعون ما تحدثه من التغيير والتبديل (( فوضى )) . لأن من طبيعة البشر الاستمرار على عادة أو طقس أو شريعة . إذ ليس في الاستمرار من عناء يُذكر . فمن يجدّف مع الموج ليس كمن يجدّف ضده . وأبغض شيء عند الناس هو تغيير عادة ألفوها . أو طقس تملّك من حياتهم فأصبح جزءاً منها . لذلك تراهم يغارون على عاداتهم وطقوسهم غيرة الأمّ على ابنها فيحوكون لها من القداسة أثواباً ، ويُحلّونها محل الملهمات ، كما لو كانت من وضع خالق السموات والأرض . فيدافعون عنها بكلّ قواهم ، ويقيمون عليها حرّاساً من الأوهام يرعبون بها كل من تسوّل له نفسه الخروج عليها والكفر بها . ![]() |
||||||||||||||||||||||||||||
![]() |
![]() |
![]() |
المشاركة رقم: 12 | ||||||||||||||||||||||||||||
|
كاتب الموضوع :
علي الموصلي
المنتدى :
الادب العربي
![]() ميخائيل نعيمة .... مذكرات الأرقش أمرٌ غريب . أراني من بعد أن جاءتني رسالة سنحاريب أكاد لا أفكّر في شيء إلّا الموت . فكأنّه في كلّ خطوة أخطوها ، ولقمة أزدردها ، ونَفَس أتنفّسه ، وفي كل خيط من الخيوط التي تستر بدني . وكأنّني ألمسه في كلّ ما ألمس . وأُبصره وأسمعه في كلّ ما أُبصر وأسمع . ولكم فكّرت فيه من قبل . ولكن تفكيري اليوم غيره في الأمس . لقد كان الموت علّة أدرسها فإذا به اليوم علّة تدرسني . كان بعيداً فاقترب . وكان اسماً فأصبح رسماً . تعالَ أيّها الموت . تعالَ نتسامر ــ ونتحاسب . الموت : لبّيك يا أرقش لبّيك ! الأرقش : ومَن أرسلك إليّ ؟ الموت : دعوتني فلبّيت . الأرقش : أنا دعوتك ؟ ! . . بلى ، بلى ... أنا دعوتك . ولكن لماذا دعوتك ؟ الموت : أفما قلت لنتسامر ــ ونتحاسب ؟ وما هي بالمرّة الأولى نتسامر ونتحاسب يا أرقش . الأرقش : ما أذكر أنّنا تسامرنا وتحاسبنا من قبل . الموت : وكيف تذكر وأنت ما تزال فرخ إنسان ؟ وها أنت دعوتني منذ لحظة ثمّ نسيت . الأرقش : فرخ إنسان ؟ بل انا إنسان كامل وإن أكن ضئيل الحجم ، ولي وجه كخشبة نخرها السوس . الموت : لا شغل للموت مع الكاملين . الأرقش : وما هو شغلك أيّها الموت ؟ الموت : أن أكمّل الناقصين . الأرقش : وإذا اكتمل الكلّ ؟ الموت : مات الموت . ولكن الكلّ لن يكتملوا دفعة واحدة . فلا مناص من الموت ما دامت السماء والأرض في قران أبديّ . الأرقش : ومتى يكتمل الأرقش ؟ الموت : يوم لا يستدين ولا يُدين . الأرقش : أفصِح . الموت : يوم لا يُميت ليحيا . الأرقش : قلتُ أفصح . الموت : يومَ يحيا بما لا يموت . الأرقش : اُعيد القول : أفصح ! الموت : سكوت . الأرقش : ليت الموت يموت ويتركنا ناقصين . أو ليتنا نكتمل بغير الموت . الموت : كنت أظنّك غير النّاس ، فإذا أنت كسائر النّاس ، تتمنّى ما لو تمّ لك لندمت عليه . أمّا أن يتركك الموت ناقصاً فعكس ما تشتهيه بالتمام . أما سمعتك أمس تتمنّى لو تعرف من أنت ؟ وأمّا أن تكتمل بغير الموت فأمر مستحيل . ولكي تفهم ما أقول حاول أن تصوّر لنفسك عالماً لا موت فيه . فلا شوكة تموت ولا زهرة ، ولا برغشة ولا ذبابة ، ولا بومة ولا حدأة ، ولا حيّة ولا سمكة ، ولا نمر ولا ذئب ، ولا جَمَل ولا حَمَل ، ولا ظربان ولا إنسان . وعالم لا موت فيه عالم ينمو باطّراد . لأنّ الجمود موت . والآن صوّر لنفسك برغشة ــ ولا أقول إنساناً . صوّرها تنمو وتنمو وتنمو منذ بدء الخليقة . أفما كانت تملأ الأرض ؟ وإذ ذاك فأين أنت وباقي المخلوقات ؟ وإن أنت حدّدت عدد المخلوقات ، ثمّ حدّدت نموّها كذلك ، فبماذا تقيدها ؟ ألَسْتَ تعشق الحياة لأن فيها ما يؤكل ويُشرب ويُشمّ ويُبصر ؟ إذن كان لا بدّ لكلّ ما يأكل من أن يؤكل . فالأرض أمّ رؤوم ، والسماء أبٌ حنون . وهما يطعمان ما يلدان من جسديهما ، ويحييانه بروحيهما . فالأجساد للأجساد والأرواح للأرواح . أمّا الأجساد فلا بدّ من موتها لأنّها في حاجة إلى الغذاء ؛ وما كان في حاجة إلى الغذاء كان لا مندوحة له عن أن يتغذّى بغيره ويتغذّى غيره به . ولولا الموت لضاقت الأرض والسماء بما تنسلان . وأمّا الأرواح فغذاؤها الأرواح . وهي لا حجم لها ولا قياس . فلا الأرض تضيق بها ولا السماء . ما عاش الأرقش ما عاشه من السنين من غير أن يستدين ويُدين . أفما دَين غير دَين المال ؟ فالعواطف والأفكار ، واللذّة والألم ، والصدق والكذب ، وسواها ــ كل هذه تُدان وتُستدان . فعلى الأرقش أن يوفي دينه . ثمّ ما عاش الأرقش ما عاشه من السنين من غير أن يقتات بجسد الأرض . فيُميت ليحيا . لذلك لا بدّ له من أن يموت ليُحيي . أمّا متى أصبح في إمكان الأرقش أن يحيا بما لا يموت ــ بالروح وحده ــ فعندئذٍ يكتمل الأرقش فلا يدنو الموت منه . الأرقش : أفما كان خيراً لي ، وقد كنت روحاً في البداية ، لو بقيت كذلك إلى الأبد ، فلا أدين ولا أستدين ، ولا أُميت لأحيا ؟ الموت : ليس الجواب على سؤالك هذا من شأني . فما أنا غير جابي الحياة ، والمعلّم الأكبر في مدرستها ، وغير رسولها . والذي أجبيه من الأحياء هو ما استدانوه من الأحياء . والذي أعلّمه النّاس هو أنّ ما يزول لا يدوم ، وما يدوم لا يزول . وأنا ما أزال بهم أطويهم ثمّ أنشرهم ، ثمّ أطويهم ثم أنشرهم ، إلى أن يتقنوا ذلك الدرس الأهمّ والأخير . ومتى أتقنوه وعاشوا به أصبحوا في غنىً عنّي . وإنّي لأحسبك في عداد تلامذتي النجباء . الأرقش : وما هي رسالتك اليوم إلى الأرقش ؟ فناولني الموت ورقة مطويّة ما فتحتها حتى ارتعدت مفاصلي ، ومشت القشعريرة في بدني ، وجمد الدم في عروقي ، وانعقد لساني . لأن الذي قرأته في الورقة ما كان غير الكلمتين اللّتين قرأتهما في رسالة سنحاريب : (( اكتب وصيتك )) . . . وبعد جهدٍ ملكت روعي فعدت أساجل الموت : الأرقش : وأيّة وصيّة تعني وليس لديّ ما أُوصي به لمخلوق ؟ الموت : لديك نفسك فابذلها . الأرقش : ولمن أبذلها ؟ الموت : لنفسك . الأرقش : أبذل نفسي لنفسي ؟ لست أفهم . الموت : تخلّ عن نفسك الزائلة لنفسك الدائمة . الأرقش : إذن تريد من الأرقش أن يمحو الأرقش ؟ الموت : بل أريد من الأرقش أن يصبح القوّة التي تمحو ولا تُمحَى . الأرقش : لقد محوت الكثير من حياتي إذ محوت اسمي من سجلات النّاس . ولقد صُمت عن الكلام ، وعن اللحم والدم ، وعن الكثير من لذاذات النفس والجسد . فماذا تريدني أن أمحو بعد ؟ الموت : امحُ الأرقش الذي ما يزال عرضة للنموّ والانحلال . الأرقش : قل لي . ما السرّ في أن الألم رفيق ملازم للموت ؟ ويقيني أنّك لولا الألم الذي تلمس به كلّ ما تلمس لما كنتَ مكروهاً من النّاس إلى حدّ كرههم لك . الموت : إنّما أكشف الألم المخزون في النّاس ولا أخزنه فيهم . فالنّاس يخزنون اللذّة . ومن شأن اللذّة المخزونة أن تتحوّل ألما ، لأنها مبتاعة بالألم . ولا شأن لي على الإطلاق في ما تخزنه أو يخزنه سواك من النّاس . فليعرف النّاس ماذا يخزنون . الأرقش : ومِن ثمّ فما الحكمة ــ حكمتك ــ في تعجيلك مع البعض وتأجيلك مع الآخر ، كأن تذهب بطفل في مهده وتتماهل مع أخيه إلى شيخوخة طويلة ؟ الموت : لست سوى المنفّذ الأمين لما يقضيه النّاس لأنفسهم أو عليها . فهم ما ينفكّون في تبادل وتفاعل دائمين مع الكون ، يشتهون أشياء ، ويُعرضون عن أشياء ، ويتلفون أشياء ؛ مثلما يبغضون بعض النّاس ، ويحبّون بعض النّاس ، ويقاتلون بعض النّاس . وهكذا يقضون لأنفسهم وعلى أنفسهم بنتائج تحتمها أعمالهم وشهواتهم وهم لا يعلمون . أمّا الحياة فتعلم ما يجهلون . وما من طفل إلّا كان قبل أن يولد ، وكان له مع الحياة حساب . الأرقش : لقد سامرتني أيّها الموت . وإنّي لك من الشاكرين . ولقد حاسبتني فما عرفت بعد رصيد حسابي . الموت : اكتب وصيتك . الأرقش : وإن لم أكتبها ؟ * * * ما هذه الخرخرة ، ومن أين ؟ . . هذا أنت يا رفيقي الأمين ؟ لقد عاد رفيقي ، فمرحباً به . وهو يدور من حولي ويترقب سانحة ليقفز إلى حضني . تعالَ يا رفيقي ، تعالَ . مغفورة لك خطاياك . لقد أدبر الموت منذ أقبلتَ . فما أجملك سميراً ، وما أعذبك مرنّماً ! أما سمعت ما قاله الموت : مَن استطاب لحم الجرذان استطابت لحمه الثعالب ؟ رفيقي : لقد خدعك الموت . فما همّي من الثعالب ما دام في الأرض فئران وجرذان ؟ أنا : أما تكره الموت ؟ رفيقي : وكيف أكره الموت وأنا الموت ؟ أما رأيتَ ما فعلته بالجرذ ؟ وعضّةٌ من فخذ جرذ سمين لهَديّةٌ يقدّمها إليّ الموت لو شئت أن أثمنّها لما استطعت . أنا : لعلّك تحبّ الموت لغيرك وتكرهه لنفسك ؟ رفيقي : من غير شك . وإلّا لكنت هرّاً أبله . أنا : إذن أنت تكره الموت وتحبّه في آن معاً . رفيقي : وأي عجب في ذلك ؟ فالموت موتان : موت ننزله بالغير ، وموت ينزله الغير بنا . موت نحيا به ، وموت يحيا بنا . حتى الموت في حاجة إلى الحياة . إذ لا حياة للموت إلّا بالحياة . ولولاها لما كان . أنا : أتكون الحياة في حاجة إلى الموت كذلك ؟ رفيقي : من غير شك . فهي تحيا به . ولولاه لما كانت . والحياة حياتان : حياة نُحييها . وحياة تُحيينا . ونظرة من عين هرّة كحلاء ، وقد التهبت أحشاؤها شوقاً إلى ما فيّ من بذور الحياة ، لهديّة تقدّمها إليّ الحياة تفوق كلّ أثمان الأرض . أنا : لأنت أحذق لساناً من الموت . ولكنّك ما قلت لي بعد : ماذا تفعل بالموت إذا جاءك الموت ؟ رفيقي : أموت . أنا : وبأوجاع الموت ؟ رفيقي : أتحمّلها . أنا : وبما ينتظرك بعد الموت : أفناء هو أم بقاء ؟ رفيقي : ذلك من شأن الموت لا من شأني . والذي أقدّره أن موتاً ربّاني لن ينساني . أنا : أمّا أنا يا رفيقي فيؤلمني أن أحيا بآلام غيري وأن يحيا غيري بآلامي . فالألم هو عدوّي وعدوّ النّاس الأكبر ، ولعلّه المنبّه الأعظم من حياة الألم إلى حياة لا يطالها الألم . لذاك أنشد تلك الحياة . أتحسبني أنشد ماء في سراب ؟ رفيقي : قد يكون السراب أنفع للظمإ من الماء . أنا : قد يكون . قد يكون . وهل كتبتَ وصيّتك ؟ * * * أفقت في الصباح والقلم بين أصابعي ، ورأسي على المنضدة أمامي ، والمصباح ما يزال يشتعل ، وبين شفتيّ هاتان الكلمتان : اكتب وصيّتك ! ![]() |
||||||||||||||||||||||||||||
![]() |
![]() |
![]() |
المشاركة رقم: 13 | ||||||||||||||||||||||||||||
|
كاتب الموضوع :
علي الموصلي
المنتدى :
الادب العربي
![]() ميخائيل نعيمة ... سبعون يا لسحر تلك الليلة التي أمضيتها وحدي على ضفة ذلك النهر الصغير ، ولا سمير لي إلّا حفيف الأوراق ، وخرير الماء ، وهمسات النسمات العابرات ، ومغامزات الدراري الحالمات ، ودقّات قلبي المطمئن ، وجذل الحياة في دمّي النشوان ! في مثل هذه السكينة يطيب للنفس أن تستحمّ وتستجمّ . في هذا الكوخ الصغير تلتقي نيويورك وبسكنتا ، وبولتافا وسياتل ، والشخروب وساحات القتال في فرنسا ، وفاريا ومادلين وبيلّا وكوتيا وهاري ، وشعراء الجاهليّة وأعضاء الرابطة القلميّة ، وألف صورة وصورة ، وألف ذكرى وذكرى . فتنسجم جميعها أبدع الإنسجام ، حتّى لتبدو وكأنّها نسيج واحد حاكته يد واحدة على منوال واحد . فلا تنافر بين خيط وخيط ، وبين لون ولون ، لا ضجيج ولا عجيج ، ولا ظفر ولا ناب . لا معابد تُضاء فيها الشموع ويُحرق البخور ، ولا أوجار يفحّ فيها الفحش والفجور . ههنا ليس من يكيلني بمكيال ، أو يزنني بميزان ، أو يقيسني بمقياس . فأنا والعوالم التي في داخلي ومن حواليّ عالم واحد تضيع فيه البدايات والنهايات ، وتتلاشى المسافات وتتعطّل جميع المكاييل والموازين والمقاييس ، وقيمتي فوق ما يحصيه عقلي ، ويدركه خيالي . لكأنّني في هذا الكوخ المتوحّد في الجبال ألاقي نفسي من جديد ، فأُسَرّ بها وتُسرّ بي كما لم يُسرّ أبداً عاشقان يتلاقيان بعد فراق طويل . وإذا بي أفاجأ بضغط شديد على صدري فأشعر أنّ قلبي يوشك أن يتوقف عن النبض ويشتدّ الضغط إلى حدّ أن لا يبقى عندي أي شكّ في أنّني مائت لا محالة . فلا أضطرب ولا أجزع ، بل أستقبل الموت برباطة جأش غريبة ، وأهتف بصوت عال God ! I’m ready ومعناه أنّني مستعدّ يا الله ! ويوقظني صوتي من غفوتي ، وإذا بي مستلقٍ على ظهري وذراعي اليمنى على صدري ! . ما دمت تعرف قيمة الحياة لنفسك فكيف تنكرها على غيرك ؟ وما دمت تكره الألم لنفسك ، فكيف تنزله بسواك ؟! ![]() |
||||||||||||||||||||||||||||
![]() |
![]() |
![]() |
المشاركة رقم: 14 | ||||||||||||||||||||||||||||
|
كاتب الموضوع :
علي الموصلي
المنتدى :
الادب العربي
![]() ميخائيل نعيمة .... سبعون نص - 2 أعرف أنّ الإنسان يشقى بتفكيره إذا هو لم يلق جواباً مقنعاً على كل سؤال يطرحه على نفسه . إذا كان الفكر عاجزاً عن حل المشكلات التي يثيرها ، فمن أين قدرته على إثارتها ؟ ولماذا عناده في معالجتها ؟ وأمله الذي لا يموت في الوصول إلى حلول لها ؟ . الناس طبقات فوق طبقات من حيث مقدرتهم على التفكير وعنادهم في ملاحقة أيّ فكر من أفكارهم ، فبين الذين في أسفل والذين أعلى مثلما بين الأرض والسماء . أولئك أفكارهم في بطونهم وظهورهم وجيوبهم ، وهؤلاء جيوبهم وظهورهم وبطونهم في أفكارهم . التقمّص ، معناه أنّ كلّ من يموت يعود بعد فترة من الزمن فيولد من جديد ، كما تفعل الحبّة بالتمام . فهي تموت لتولد حبّة من جديد ، أي تولد في جسد جديد يهيأ لك جسماً تقتضيه أعمالك وميولك ومواهبك وعلاقاتك التي حملتها معك عند الموت من حياتك الحاضرة . إنّه النظام القاضي بأن تحصد مثلما تزرع . فمن زرع الزؤان حصد الزؤان ، ومن زرع القمح حصد القمح ، الخير بالخير والشرّ بالشرّ ، حتّى النيّات والأفكار تخضع للنظام . فأيّ العدل هو عدل الله يضرب جنيناً في بطن أمّه بالعمى أو البكم أو بالكساح أو البله ، ويمنح الآخر القوّة والعبقرية والجمال !؟ . فمن مات وبه ميل يطغى على باقي ميوله عاد إلى الأرض فكان ذلك الميل أبرز مواهبه . إنّك تنام ليلك ثمّ تفيق فلا تذكر إلّا القليل القليل من أحلامك ، وقد لا تذكر منها شيئاً ، فكيف بك تنام نوم الموت ، وتنتقل من جسد إلى جسد ، ومن حال إلى حال . وهناك الذين يذكرون ، والذين يروون حكايات حيوات سابقة ، ولكنّ الناس لا يُصدّقون . وعلى قدر ما استغربت العقيدة واستهجنتها في بدء حديثنا عنها ، وجدتني كلّما تماديت في الأسئلة ، وتبسّط رفيقي في الأجوبة والشرح ، أفتح لها عقلي وقلبي أوسع فأوسع . حتّى أنّني أذهلت عندما رحت أفسّر حياتي على ضوء تلك العقيدة ، فحسبي منها أنّها ردّت إليّ إيماني بقدرة شاملة منظمّة عادلة محبّة ، لا محاباة في نظامها ولا زيف ، أنّها عوّضتني عن فكرة (( الخطيئة الجدّية )) أو (( الدينونة الرهيبة )) . ولأنّ المعرفة لا تكون معرفة إلّا إذا لم يبق لديها أيّ مجهول ، ولأنّ تلك المعرفة يستحيل بلوغها في خلال عمر واحد مهما طال ، فالعقيدة قد جعلت العمر حركة موصولة تتخلّلها فترات انتقال من جسد إلى جسد ، ومن حال إلى حال ، وهي الفترات التي ندعوها (( الموت )) . علامَ لا يفسح الله للإنسان مجالاً للمعرفة غير سنوات معدودات ، والزمان كلّه في قبضته . فكيف يريدنا الله أن ندخل مدرسة الحياة لننتهي منها في عقدين أو ثمانية عقود من السنين بشهادة تخوّلنا (( ملكوته السماوي )) و (( فسيح جنانه )) وإلّا فمصيرنا إلى الهاوية حيث النار لا تنطفئ . وأيّ بأس على العقيدة في أنّ (( العلم )) لا يقرّها ، وماذا يعرف العلم ، إنّه لا يزال في أول طريقه من درس المحسوسات . إن يكن للعالم مختبره ، فنفسي هي مختبري . وإن أمضى العالم في مختبره بضع ساعات من يومه ، فنفسي معي في الليل والنهار ، وأنا أُجري فيها اختباراتي في كلّ دقيقة من حياتي ، وهي تسجّل كلّ ما اختبره بدقّة أين منها دقّة الأجهزة الكهربائية والالكترونية . خُلاصة القول إنّ عقيدة تُكرّر الاختبار بتكرّر الأعمار بغية المعرفة الكاملة والحريّة المثلى باتت الركيزة الكبرى التي تقوم عليها فلسفة حياتي ، فالحياة أكثر من مهزلة تبتدئ في المهد وتنتهي في اللحد لتعود فتتجدّد إمّا في غبطة أبديّة ، أو في عذاب أبديّ . والإنسان أكثر من أُلعوبة في يد القدر ، وحتّى في يد الله . إنّه الشرارة الإلهيّة المغلّفة بشتّى الغُلَف والمتوهّجة توهّجاً لا ينقطع ولا ينفكّ يحرق تلك الغلف على مدى الزمان إلى أن ينطلق منها نوراً يملأ الزمان والمكان ، لذلك كانت الحرارة التي يبعثها فيها شوقنا إلى الجمال والمعرفة والحرية مقياس (( تقدّمنا )) . ![]() |
||||||||||||||||||||||||||||
![]() |
![]() |
![]() |
المشاركة رقم: 15 | ||||||||||||||||||||||||||||
|
كاتب الموضوع :
علي الموصلي
المنتدى :
الادب العربي
![]() ميخائيل نعيمة ... سبعون نص -3 لقد كان من المسلّم به عند سكان لبنان في عهد المتصرفية أن روسيا هي الحامية التقليدية للروم ، وفرنسا للموارنة ، وبريطانيا للبروستانت والدروز ، وتركيا للمسلمين !. كانت تُتلى الخطب الطنّانة والقصائد الرنّانة وكلّها يمجّد السلطان الغازي عبد الحميد خان . أي الجرائم كانت تُرتكب بحق أذواقنا وأفكارنا البريئة إذ يحملوننا على حفظ تلك الفسافس والترهات والأكاذيب وعلى تنغيمها أمام الجماهير ، وهذه واحدة : (( حمداً لربّ العالمين ، قد قرب الفتح المبين ، فانهض وقل للخاشعين ، قوموا ! وضجّوا عالياً ! يا ربنا كن واقياً ، عبد الحميد الغازيا ، ملك سما وتعزّزا ، وعلى الملوك تميّزا ، وسطا وغزا ، بل غزا ، وغدا البشير مناديا ، في ظلّه كل الأمم ، رتعت وأمست في نِعمْ ، والذئب بات مع الغنم ، والطير أصبح شاديا )) ذلك غيض من فيض ذلك النفاق الساخر الوقح الذي كُنّا نُحمل على الترنّم به غافلين عن أنّه السمّ يُدس لنا في الدسم . ثم أين كان لنا أن ندرك أنّ العثمانيين والأوروبيين بالسواء لم يكونوا في ديارنا غير مغتصبين . لقد كلّفني فيما بعد جهداً ليس باليسير أن أنزع ذلك السمّ من دمي .. الكلمة الفاجرة المنافقة ، المرائية التي تعلن غير ما تضمر ، وتضمر غير ما تعلن ، ولا تخجل . لذلك كان همّي في أول عهدي بالكتابة ، أن أعلنها حرباً شعواء على النفاق في الأدب . صحت في أول مقال نشرته (( الإخلاص )) ! ويا ليت لنا منه قدر حبّة خردل ، كلمة أصبحت عندنا (( كالخنفشار )) ، وفضيلة لم يبق لها من مكان في حياة جُبلت بالرياء والمداهنة والتزلّف وحبّ المجد الفارغ . وإلا فمن أين ميلي المبكّر إلى العزلة والانفراد والسكون حتى إنّ خالة لي كانت تلقّبني بـ "الست ساكتة" ، لقد كنت في الواقع أنفر من الضوضاء والعربدة والخصام ، فلا ألبث أن أترك الميدان وأمضي أفتّش عن خلوة على حافية ساقية . ![]() |
||||||||||||||||||||||||||||
![]() |
![]() |
![]() |
المشاركة رقم: 16 | ||||||||||||||||||||||||||||
|
كاتب الموضوع :
علي الموصلي
المنتدى :
الادب العربي
![]() ميخائيل نعيمة ... من كتاب مرداد ليس في المحبة من (( أكثر )) ولا من (( أقلّ )) . فساعة يخطر ببالكم أن تزِنوا المحبة أو أن تقيسوها تتسلل من قلوبكم تاركة وراءها ذكريات مُرّةً لا غير . لا وليس في المحبة (( الآن )) و (( عندئذٍ ) ولا (( هنا )) أو (( هناك )) . فكل الفصول فصول للمحبة وكل الأماكن مساكن لائقة بها . لا تعرف المحبة تخوماً وحواجز . فالمحبة التي تقف حائرة أمام أي تخم أو حواجز ليست جديرة بعد باسم المحبة . لكَم سمعتكم تقولون إن المحبة عمياء . وأنتم تعنون أنها لا ترى عيباً في المحبوب . إنّ عمى كذلك العمى لهو أسمى درجات البصر . ألا ليتكم كنتم عمياناً إلى حدّ أن لا تبصروا عيباً في شيء ! كلّا . ليست المحبّة بالعمياء . بل إن لها عيناً تخترق كل الحُجُب . ولذلك لا تبصر من عيوب على الإطلاق . وأنتم عندما تطهّر المحبّة أبصاركم لن تستطيعوا أن تروا شيئاً غير جدير بمحبتكم . إنما تبصر العيبَ عينٌ محرومة من المحبة وملأى بالعيوب . وما العيوب التي تبصرها غير عيوبها . المحبة تجمع . والبغض يفرّق . إنّ هذه الكميّة الهائلة من الصخر والتراب المعروفة بقمّة المذبح لو لم تكن ممسوكة معاً بيد المحبة لتطايرت شظايا في الفضاء . حتى أجسادكم ، على وهنها ، ما كانت لتتفكك لو كان لكم أن تحبّوا كل خليّة من خلايا محبة متوازية ، قوية ، خالصة . المحبة سلام نشوان بألحان الحياة . والبغضاء حرب صاخبة بصرخات الموت . فأيّ الاثنين تختارون : أأن تحبوا فتكونوا في سلام دائم ؟ أم أن تبغضوا فتكونوا في حرب أبديّة ؟ إنما الأرض كلها تحيا فيكم . وإنما السموات وكل أجنادها حيّة فيكم . فأحبوا الأرض وكلّ الراضعين من ثديها إن أنتم شئتم أن تحبوا أنفسكم . وأحبوا السموات وكل أجنادها إن أنتم شئتم أن تكون لكم حياة . ![]() |
||||||||||||||||||||||||||||
![]() |
![]() |
![]() |
المشاركة رقم: 17 | ||||||||||||||||||||||||||||
|
كاتب الموضوع :
علي الموصلي
المنتدى :
الادب العربي
![]() ميخائيل نعيمة ...اليوم الأخير في كلّ عام يغوص العِلم أعمق فأعمق في طلب ما هو متناهٍ في الصغَر ، مثلما يرتفع أعلى فأعلى نحو ما هو متناهٍ في الكِبَر . فشمسنا الّتي ليست في تلك العوالم الهائلة سوى نجمة متواضعة هي أثقل وزناً من الأرض بثلاثمائة ألف مرّة ، وفي عالمنا الشمسي مائة ألف مليون من أمثال تلك النجمة ، وهذه العوالم الشمسيّة لا يزال الكثير منها في طور التكوين . وذلك يزيد الشكّ في ما يعتقده بعضهم بوجود مسكونة ذات حدود في المكان والزمان . أمّا أن يكون ذلك النظام عاقلاً أو غير عاقل ، أو أن يكون مادّة أو روحاً ، فجدل لا طائل تحته . إذ أنّنا ، حتّى اليوم ، لا نستطيع التفريق بين المادة والروح . فها هو العالم الّذي ذكرت ، وهو من أقحاح العلماء الماديّين يعترف بأنّ المتناهي في الصغر وفي الكبر لا يقف أيّ منهما عند حدّ . وعندئذٍ فالشيء الوحيد الثابت هو ذلك المجهول الّذي في استطاعته أن يصغر إلى ما لا نهاية وأن يكبر إلى ما لا نهاية ، وليس يغيّر في طبيعته شيئاً أن ندعوه مادّة أو أن ندعوه روحاً . أمّا الذّين أدركوا النظام فسايروه عن فهم وعن رضىً فهم القلّة المغبوطة . أولئك هم الّذين انكشفت في نفوسهم صورة الواحد الأحد ، جليّة ، صافيّة ، باهرة . فباتوا لا يتقاذفهم مدّ وجزر ، ولا يتصارع فيهم خير وشرّ . إنّهم يحيون في المطلَق وبالمطلق الّذي هو أبداً هو . اليوم شعرت بأنّ نافذة جديدة على الحياة قد انفتحت في داخلي ، وأنّ الحياة التي أطلّ عليها من تلك النافذة حياة لا نهاية لما فيها من دهشة ونظام وجمال وكمال . أيكون انفتاح النافذة إيذاناً بانغلاقها ، أتكون الفاتحة في حياتي هي الخاتمة . وها هي الفلسفات التي درستها ودرّستها حتى اليوم تنهار جميعها أمام صوت يهتف بي في المنام (( قم ودّع اليوم الأخير )) ! ![]() |
||||||||||||||||||||||||||||
![]() |
![]() |
![]() |
المشاركة رقم: 18 | ||||||||||||||||||||||||||||
|
كاتب الموضوع :
علي الموصلي
المنتدى :
الادب العربي
![]() ميخائيل نعيمة .. في حضن الطبيعة تمرّ بي أيام يضيق فيها صدري بكل ما حواليّ . فبيتي ليس بيتي . إنه لَسجن رهيب تضغط عليّ جدرانه وأرضه وسقفه وأثاثه فتكاد تسحقني سحقاً . وهذه الكتب التي تتحوّطني من كل جانب ، والتي أفنيت عمري في مصاحبتها ، تبدو لعيني كما لو كانت قوارير فارغة من كل شيء إلّا الفراغ . حتى القلم ، ذلك الرفيق الأمين ، المطيع ، الوفي ــ يحرُن في يدي . فكأن بينه وبين قلبي وفكري هوّة كالتي بين الأرض والسماء . وأهلي ليسوا بأهلي . انهم لقوم لا تربطني بهم أيّ صلة غير صلة الجوار . في مثل تلك الأيام تنقضّ على عيني رؤى ، وتساور أذني أصوات من عالم لا جدران فيه ولا سقوف ، ولا كتب وأقلام ، ولا بشر ركبتهم الهواجس والهموم ، واستوطنت نفوسَهم شتى النزوات والمشكلات . وإذا في كل قطرة من دمي مهماز . وإذا بي ، في خلال دقائق معدودات ، أهيم في دنيا من السحر والفتنة ، ابكمُها خطيب مصقع ، ومُقعدها مجنّح ، وأعماها بصير مُبدع ، ومواتها آهل بكل عجيبة . انها البريّة ! ههنا تعدو الديمة ، ويدبّ الجُعَل ، وتمرح النسائم ، وتتهامس الأعشاب ، وتتراقص الأشجار ، وتحلم الصخور ، ويحبل التراب ويولّد ، ويغنّي العصفور ، ويثرثر الينبوع ، ويقرقر الجدول ، وترعى الشاة ، ويقفز الجدي ، وتنشر الشمس وشاحاً من الدفء والنور فوق كل شيء . ههنا يد الإنسان المكفوفة إلى حد بعيد . فلا هو بالآمر ولا بالناهي . ولا قيمة على الإطلاق لقوانينه وتقاليده ، ولا مجال لمشكلاته ومخرقاته ، ولا من يأبه بقيله وقاله . ههنا دنيا لا بيع فيها ولا شراء ، ولا قضاة ومحامين ، ولا سياسة وسياسيين ، ولا سجون ومساجين ، ولا كهّان ومصلّين . ههنا ليس غير المبدع الذي لا حدّ لخياله ولا لقدرته بداية أو نهاية . ما أن تحويني البرية حتى يأخذ سحرها يدبّ في فكري وقلبي دبيبَ السلافة في الدم ، والنعاس في الجفن . فيطفر القلب من بين الضلوع ليزحف على التراب مع الكائنات التي تسعى إلى رزقها بغير أرجل ، وليدبّ مع التي لا أجنحة لها ، وليمطتي الهواء مع ذوات الجناح ، وليلثم تلك العشبة أو هذه الزهرة ، أو ليفتش مع هاتيك العصفورة عن طعام تزقّ به فراخها . ويتيه الفكر في هذه الفكرة الهائلة من الأشكال والألوان ، والروائح والأصوات ، والسكنات والحركات ، وفي الغاية منها ، والمسالك المتعددة ، المتشابكة التي تسلكها لتحقيق تلك الغاية . أما الخيال فيخرّ ساجداً أمام جبروت القدرة التي تخيّلت هذه الأشياء كلها ثم قالت لها : (( كوني ! )) فكانت ، والتي لا تنفكّ تغيّر وتبدّل فيها فتدفعها أمواجاً متلاحقة بغير انقطاع . فلا هي تفنى . ولا هي تستقرّ على حال . وتبدو ، مع ذلك ، كما لو كانت في منتهى الاستقرار . فكأنها هي هي عاماً تلو عام ، وجيلاً بعد جيل . وكأن استقرارها في عدم استقرارها . لكم سألت نفسي عن السرّ في الانشراح الذي يشعر به أكثر الناس في حضرة الطبيعة ــ أين مكمنه ؟ أهو فيما تقع عليه العين ، أو تصطاده الأذن ، أو يشمّه الأنف ، أو تتحسّسه اليد ؟ أم هو في انسجام هذه كلها انسجاماً يصبو إليه الإنسان بكل جوارحه ويتعذر عليه الإتيان بمثله في حياته البيتية والسياسية والاجتماعية ؟ فليس في الطبيعة أشياء تستطيع أن تقول أنها في غير مكانها . ولا فيها أشكال تتنافر . وألوان تتشاكس . مثلما ليس فيها حركات لا تتواقت وتتواقع ، أو أصوات يمكنك أن تحسبها نشازا لو كان لك أن تسمعها لا بمفردها بل ضمن جوقة الطبيعة الكاملة . أم ان اغتباطنا بما تبسطه الطبيعة لأبصارنا ، وتعزفه لآذاننا هو في انفلاتنا ــ ولو إلى حين ــ من القيود الكثيرة التي تفرضها علينا حياتنا في شتّى الميادين ، وفي الانعتاق من الملل الذي يتسرب إلى نفوسنا من جراء الأعمال التي نقوم بها يوماً بعد يوم وعاماً تلو عام ؟ والذي يبدو لي هو أننا نطمئن إلى الطبيعة لأسباب كثيرة . منها التي ذكرت . ولكنها ليست الأهم . أما الأهم فهو ان الطبيعة مسيّرة في كل حركاتها وسكناتها . في حين نحن مسيَّرون ، ولكن إلى حد . ومخيّرون ولكن إلى حد كذلك . والذي يسيّر الطبيعة هو الذي يختار لها الطرق التي تسير فيها ، والأشكال التي تتلبسها ، والألوان التي تتزين بها . وهو من المهارة في فنّه حيث لا يستطيع أن يرقى فكرنا ، مهما صفا ، أو خيالنا مهما كان وثاباً . لذلك يسحرنا فنه ونحس قصورنا الفادح تجاهه . والفنان الذي يختار للطبيعة أشكالها وألوانها والسُبل التي تسير عليها هو عينه الذي يختار لنا اشكالنا وألواننا وسبلنا . ولكنه لحكمة لم ندركها بعد ، قد اختار أن تكون في حياتنا قوة الاختيار . ولذلك وهَبنا القدرة على التفكير والتخيّل والتمييز والإرادة . وهي هبة غالية لم يُجد بمثلها على الطبيعة العجماء . إلّا انها تنطوي على مسؤولية . والمسؤولية عبء ثقيل لمن لا يحسن القيام بها . ولأننا لا نحسن القيام بها حتى الآن ترانا نحسد الذين بغير مسؤولية ، ونستشعر شيئاً من الراحة والطمأنينة والغبطة في رفقتهم . تلك هي حالنا مع صغار الكائنات من كل نوع ــ مع أطفالنا ، ومع صغار الحيوان ، وفراخ الطير . وتلك هي حالنا مع الصخر والتراب والنبات وكل ما على الأرض والفضاء . ونحن عندما نكون في خلوة مع الطبيعة تنصرف أفكارنا عن مسؤولياتنا وعن حياة تعقدت نظُمها وعاداتها وتقاليدها ، واختلطت علينا متطلباتها فما ندري أيها التافه وأيها المهم ، أو أيها الصالح وأيها الطالح . ان ما يسحرنا في الطبيعة ، بالإضافة إلى ما فيها من وفرة الأشكال وبديع الهندسة ، هو امتثالها العفوي الكامل لمشيئة لا طاقة لها على معاندتها ، ثم خلوّها التام من فكرة الخير والشر وضرورة الاختيار ما بينهما ، وما يرافق ذلك الاختيار من حيرة وقلق وشك وتردد ، وإقدام وإحجام ، وندامة وتقريع ضمير إذا نحن أسأنا الاختيار . وهذه الاتكالية المطلقة من جانب الطبيعة تبدو لنا وكأنها تسخر بعنادنا وبكل محاولة نقوم بها لتطويع النظام لإرادتنا بدلا من تطويع إرادتنا للنظام . فنتمنّى لو كنا بغير فكر ، وبغير إرادة ووجدان ، وبالتالي بغير مسؤولية ، شأننا في ذلك شأن أطفالنا الرضّع ، وشأن كل خليقة دون الإنسان . ذلك ، في الغالب ، هو الشعور الذي يسطو علينا عندما نكون في خلوة مع الطبيعة . فتتعطل معه مقاييسنا ، وتتخدر همومنا ، وتخفّ أوزارنا ، وتكاد تتلاشى مسؤولياتنا . فنتذوق مثل غبطة الطفل يمتص ثدي أمه ولا يساوره أقل شك في أنه كلما جاع سيجد ذلك الثدي في انتظاره . إلّا اننا لا نلبث أن نصحو من نشوتنا . وإذا بنا نسأل من جديد : ما هذا ؟ ومن أين ؟ وإلى أين ؟ ولماذا ؟ وإذا بنا نحس في أعماقنا شوقاً هاصراً إلى الإجابة على تلك الأسئلة ، وإذا بخيالنا يصفّق بجناحيه ويمضي يشقّ أبعاد الزمان والمكان ، وإذا بإرادتنا تنتفض وتعلن بمنتهى الجد والحرارة : لغيري أن يستسلم عن ضعف وعن جهل . أما أنا ، وإن نهشني الألم ورضّضني الموت ، فلن استسلم ما دام فوق قدرتي قدرة ، وفوق معرفتي معرفة . بل سأجعل من الألم مفتاح الطمأنينة . ومن الموت عبّارة إلى الحياة . وفي ذلك ، لعمري ، سر عظمة الإنسان . انه يريد أن يعرف . وسيعرف . ويريد أن يتغلّب . ولسوف يتغلّب . ![]() |
||||||||||||||||||||||||||||
![]() |
![]() |
![]() |
المشاركة رقم: 19 | ||||||||||||||||||||||||||||
|
كاتب الموضوع :
علي الموصلي
المنتدى :
الادب العربي
![]() ميخائيل نعيمة .... دروب \ زاد المعاد من كان ذا نفس كبيرة كان أنبل من أن يغتاب أحداً من الناس أو أن ينمّ على أحد من الناس . فالغيبة والنميمة أقذار لا يستطيب التغلغل في أجوافها النّتنة والانتشاء بروائحها الكريهة إلا صغار النفوس . وهؤلاء قد يكونون من أعرق العيال حسباً ، أو من أرفع الناس مركزاً ، أو من أوفرهم ثروةً ، أو من أبعدهم شهرة في دنيا العلم والفنّ والسياسة والدين والاجتماع ، ويكون ما بينهم وبين النبل من شاسع البون مثل ما بين الأرض وزحل . ومن كان ذا نفس كبيرة كان أبعد الناس عن التبجّح . فما تبجّح إنسان بقوّة بدنيّة أو عقليّة ، أو بمال أو عقار ، أو بنسبٍ أو جاه ، أو بشهرة أو بسلطان إلّا لأن في نفسه الصغيرة جوعاً إلى العظمة الحقّة التي تأبى الانقياد إليه ، فيحاول أن يبتزّها من الغير ابتزازاً ــ ولو بقوّة حنكه ولسانه . ومن كانت نفسه كبيرة أبت عليه أن يظهر أمام الناس على غير حقيقته . فما خجل بجهله بين العلماء ، ولا بفقره بين الأثرياء ، ولا بضعفه بين الأقوياء . وإن هو كان على شيء من العلم والثروة والقوّة ما زها بذلك على الجهلاء والفقراء والضعفاء ، بل على العكس ، قلّل من قيمة هذه الأشياء مخافة أن يخجل منه الجاهل والفقير والضعيف . أمّا الذين صغرت نفوسهم فيسيرون في الأرض بوجوه ليست وجوههم ، وألسنة ليست ألسنتهم ، ولباس ليس لباسهم . فهم أبداً يُبْطنون غير ما يُظهرون ، وينطقون بغير ما يفكّرون ويشعرون ، ويُسعدهم أن ينخدع الناس بما يُظهرون عمّا يُبطنون . والذي نفسه كبيرة لا يكبر على أيّ إنسان ، ولا يذلّ لأيّ إنسان . فهو يعلم أن كرامته لا تُصان إلّا إذا هو صان كرامة الغير ، وأن كرامة تقوم على مذلّة الغير لمَذلّة في ثوب الكرامة . وهو يأبَى على كرامته أن تكون تاجاً من نسيج العنكبوت تعبث به نفخة ريح عابرة قد لا تكون أكثر من كلمة طائشة ، أو حركة نابية تأتيه من حسود أو نمّام أو عدوّ ــ أو من صديق حميم . ولذلك لا يقابل الكلمة الطائشة بكلمة طائشة ، ولا الحركة النابية بحركة نابية . ولا هو يحسد حاسديه ويعادي الذين يعادونه ، ويشمت بالذين يشمتون به . فنفسه أسمى من أن تنحدر إلى مثل هذه الصغائر ، وأنقى من أن تتمرّغ في مثل هذه الأوحال . ![]() |
||||||||||||||||||||||||||||
![]() |
![]() |
![]() |
المشاركة رقم: 20 | ||||||||||||||||||||||||||||
|
كاتب الموضوع :
علي الموصلي
المنتدى :
الادب العربي
![]() ميخائيل نعيمة .. من كتاب البيادر ها هم الذين لفظتهم حروفاً حيّة في اسمك الحيّ الذي لا يُلفَظ ما يفتأون يصلون الحروف بالحروف ، والمقاطع بالمقاطع ، ويزوّجون الكلمات من الكلمات ويؤلفون منها الأحاديث والأساطير والأسفار . فلا تكلّ لهم شفاه ، ولا تحرُنُ لهم أقلام ، ولا تتخدّر منهم أنامل ، وكلماتهم أكثر ما تكون دخاناً لأبصارهم ، وفخاخاً لأقدامهم ، وسموماً لدمائهم ، ومناخز تقض عليهم مضاجعهم وتعبث بأحلامهم ، والبريء منها ما كان كاليعسوب ، لا عسل في فمه ولا إبرة في دبره . أما الكلمة التي تضمد جرحاً ، وتفكّ قيداً ، وتمزّق غشاوة ، والكلمة التي تجمع ولا تفرّق ، وتجبر ولا تكسر ، وتفتح ولا تغلق ، والكلمة التي تشفع ولا تصفع ، وتصفح ولا تنبح ، وتعين ولا تدين فما أندرها ! وأندر منها كلمة في يائها ألِف وفي ألفها ياء ــ طليقة من أحابيل البدايات والنهايات حيث بنوك يتخبطون وعنك يا ألفاً هي الياء ، وياءً هي الألف ، يصدفون . أعداد فوق أعداد ، وحروف ومقاطع وكلمات بعد حروف ومقاطع وكلمات ، وكلُّها سواد ، وظلمات طي ظلمات . فإلى مَ ، إلى مَ هذا الليل يا واحداً لا يُعَدّ ، ويا ألفاً لا تُمثَّل ، وياءً لا تُصَوَّر ؟ ![]() |
||||||||||||||||||||||||||||
![]() |
![]() |
![]() |
مواقع النشر (المفضلة) |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
![]() |
||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
كتب أدبية وتاريخية ودينية متنوعة | علي الموصلي | المنتدى العام | 0 | 2021-06-27 08:21 PM |
نصوص من نفائس شيخ الإسلام ابن تيمية في ذم الرافضة | الصديق الوفي | المنتدى الاسلامي العام | 4 | 2016-07-14 04:14 AM |
طرفة أدبية | نعمان الحسني | القصص والامثال | 6 | 2013-11-26 08:46 PM |
مصطلحات أدبية ( النثر الفني ) | محب العراق | الادب العربي | 3 | 2013-09-26 02:27 AM |