العودة   منتديات اهل السنة في العراق > الملتقيات الأدبية > الادب العربي

الادب العربي الادب العربي , شعر , نثر , مقالات ادبية , قصائد



إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2021-07-18, 10:03 PM   المشاركة رقم: 11
المعلومات
الكاتب:
علي الموصلي
اللقب:
:: مدآفع عن أهل السنة ::
الرتبة:

البيانات
التسجيل: Jun 2021
العضوية: 6270
المشاركات: 1,686 [+]
معدل التقييم: 40
نقاط التقييم: 50
علي الموصلي will become famous soon enough

الإتصالات
الحالة:
علي الموصلي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : علي الموصلي المنتدى : الادب العربي
افتراضي رد: نصوص أدبية ( روائع )

ميخائيل نعيمة ... المراحل \ ومضات

من يشرب السم يمت طبقاً لنظام الحياة والموت . لأنّه يعاند ذلك النظام الذي لا يعرف معانداً . أما من يدرس الشريعة البشرية فيسرق رغيفاً ، فالشريعة من تلقاء نفسها لا تجعل ذلك الرغيف في فمه حجراً . ولا تقطع يده ولا تفقأ عينه لأنّه بسرقته الرغيف لم يعاند النظام السرمدي ، بل خرق نظاماً اصطلاحيّاً لا جوهر له من نفسه ، ولا له أُسُسٌ يقوم عليها سوى المصلحة البشرية الوقتيّة التي قد تكون اليوم غير ما كانت أمس . وغداً غيرها اليوم .
ألا إن الناس يتستّرون بظلّ أصابعهم ، ويسيرون كلٌّ في سبيله قانعين ، مؤمنين أن السياج الذي أقاموه حولهم من الشرائع لا يترك منفذاً لمتمرّد ، ولا مهرباً لعاصٍ . وقد فاتهم أن أعصى العصاة والمتمرّدين هو الفكر الذي لا يحصره سياج ، ولا تقيّده شريعة ، ولا تغله أغلال .
فمَن ذا من الناس تمكن يوماً من أن يقيّد فكره بوثاق فيحدّد مجراه ، ويكبح هواه ، ويدرّب خطاه ؟
إن هذا الفكر الذي لا يتقيّد بنظام سوى النظام الأكمل الأعلى هو مهبّ الرّياح التي تعصف بين الآونة والأخرى بأوضاع الناس وتقاليدهم وشرائعهم فتزعزعها وتقوضها . وكثيراً ما تقلبها رأساً على عقب ، فيحسب الناس مثل هذه العواصف ملمّة ، ويدعون ما تحدثه من التغيير والتبديل (( فوضى )) . لأن من طبيعة البشر الاستمرار على عادة أو طقس أو شريعة . إذ ليس في الاستمرار من عناء يُذكر . فمن يجدّف مع الموج ليس كمن يجدّف ضده .
وأبغض شيء عند الناس هو تغيير عادة ألفوها . أو طقس تملّك من حياتهم فأصبح جزءاً منها . لذلك تراهم يغارون على عاداتهم وطقوسهم غيرة الأمّ على ابنها فيحوكون لها من القداسة أثواباً ، ويُحلّونها محل الملهمات ، كما لو كانت من وضع خالق السموات والأرض . فيدافعون عنها بكلّ قواهم ، ويقيمون عليها حرّاساً من الأوهام يرعبون بها كل من تسوّل له نفسه الخروج عليها والكفر بها .













عرض البوم صور علي الموصلي   رد مع اقتباس
قديم 2021-07-18, 10:06 PM   المشاركة رقم: 12
المعلومات
الكاتب:
علي الموصلي
اللقب:
:: مدآفع عن أهل السنة ::
الرتبة:

البيانات
التسجيل: Jun 2021
العضوية: 6270
المشاركات: 1,686 [+]
معدل التقييم: 40
نقاط التقييم: 50
علي الموصلي will become famous soon enough

الإتصالات
الحالة:
علي الموصلي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : علي الموصلي المنتدى : الادب العربي
افتراضي رد: نصوص أدبية ( روائع )

ميخائيل نعيمة .... مذكرات الأرقش

أمرٌ غريب . أراني من بعد أن جاءتني رسالة سنحاريب أكاد لا أفكّر في شيء إلّا الموت . فكأنّه في كلّ خطوة أخطوها ، ولقمة أزدردها ، ونَفَس أتنفّسه ، وفي كل خيط من الخيوط التي تستر بدني . وكأنّني ألمسه في كلّ ما ألمس . وأُبصره وأسمعه في كلّ ما أُبصر وأسمع . ولكم فكّرت فيه من قبل . ولكن تفكيري اليوم غيره في الأمس . لقد كان الموت علّة أدرسها فإذا به اليوم علّة تدرسني . كان بعيداً فاقترب . وكان اسماً فأصبح رسماً .
تعالَ أيّها الموت . تعالَ نتسامر ــ ونتحاسب .
الموت : لبّيك يا أرقش لبّيك !
الأرقش : ومَن أرسلك إليّ ؟
الموت : دعوتني فلبّيت .
الأرقش : أنا دعوتك ؟ ! . . بلى ، بلى ... أنا دعوتك . ولكن لماذا دعوتك ؟
الموت : أفما قلت لنتسامر ــ ونتحاسب ؟ وما هي بالمرّة الأولى نتسامر ونتحاسب يا أرقش .
الأرقش : ما أذكر أنّنا تسامرنا وتحاسبنا من قبل .
الموت : وكيف تذكر وأنت ما تزال فرخ إنسان ؟ وها أنت دعوتني منذ لحظة ثمّ نسيت .
الأرقش : فرخ إنسان ؟ بل انا إنسان كامل وإن أكن ضئيل الحجم ، ولي وجه كخشبة نخرها السوس .
الموت : لا شغل للموت مع الكاملين .
الأرقش : وما هو شغلك أيّها الموت ؟
الموت : أن أكمّل الناقصين .
الأرقش : وإذا اكتمل الكلّ ؟
الموت : مات الموت . ولكن الكلّ لن يكتملوا دفعة واحدة . فلا مناص من الموت ما دامت السماء والأرض في قران أبديّ .
الأرقش : ومتى يكتمل الأرقش ؟
الموت : يوم لا يستدين ولا يُدين .
الأرقش : أفصِح .
الموت : يوم لا يُميت ليحيا .
الأرقش : قلتُ أفصح .
الموت : يومَ يحيا بما لا يموت .
الأرقش : اُعيد القول : أفصح !
الموت : سكوت .
الأرقش : ليت الموت يموت ويتركنا ناقصين . أو ليتنا نكتمل بغير الموت .
الموت : كنت أظنّك غير النّاس ، فإذا أنت كسائر النّاس ، تتمنّى ما لو تمّ لك لندمت عليه .
أمّا أن يتركك الموت ناقصاً فعكس ما تشتهيه بالتمام . أما سمعتك أمس تتمنّى لو تعرف من أنت ؟
وأمّا أن تكتمل بغير الموت فأمر مستحيل . ولكي تفهم ما أقول حاول أن تصوّر لنفسك عالماً لا موت فيه . فلا شوكة تموت ولا زهرة ، ولا برغشة ولا ذبابة ، ولا بومة ولا حدأة ، ولا حيّة ولا سمكة ، ولا نمر ولا ذئب ، ولا جَمَل ولا حَمَل ، ولا ظربان ولا إنسان . وعالم لا موت فيه عالم ينمو باطّراد . لأنّ الجمود موت .
والآن صوّر لنفسك برغشة ــ ولا أقول إنساناً . صوّرها تنمو وتنمو وتنمو منذ بدء الخليقة . أفما كانت تملأ الأرض ؟ وإذ ذاك فأين أنت وباقي المخلوقات ؟ وإن أنت حدّدت عدد المخلوقات ، ثمّ حدّدت نموّها كذلك ، فبماذا تقيدها ؟ ألَسْتَ تعشق الحياة لأن فيها ما يؤكل ويُشرب ويُشمّ ويُبصر ؟
إذن كان لا بدّ لكلّ ما يأكل من أن يؤكل . فالأرض أمّ رؤوم ، والسماء أبٌ حنون . وهما يطعمان ما يلدان من جسديهما ، ويحييانه بروحيهما . فالأجساد للأجساد والأرواح للأرواح . أمّا الأجساد فلا بدّ من موتها لأنّها في حاجة إلى الغذاء ؛ وما كان في حاجة إلى الغذاء كان لا مندوحة له عن أن يتغذّى بغيره ويتغذّى غيره به . ولولا الموت لضاقت الأرض والسماء بما تنسلان . وأمّا الأرواح فغذاؤها الأرواح . وهي لا حجم لها ولا قياس . فلا الأرض تضيق بها ولا السماء .
ما عاش الأرقش ما عاشه من السنين من غير أن يستدين ويُدين . أفما دَين غير دَين المال ؟ فالعواطف والأفكار ، واللذّة والألم ، والصدق والكذب ، وسواها ــ كل هذه تُدان وتُستدان . فعلى الأرقش أن يوفي دينه .
ثمّ ما عاش الأرقش ما عاشه من السنين من غير أن يقتات بجسد الأرض . فيُميت ليحيا . لذلك لا بدّ له من أن يموت ليُحيي .
أمّا متى أصبح في إمكان الأرقش أن يحيا بما لا يموت ــ بالروح وحده ــ فعندئذٍ يكتمل الأرقش فلا يدنو الموت منه .
الأرقش : أفما كان خيراً لي ، وقد كنت روحاً في البداية ، لو بقيت كذلك إلى الأبد ، فلا أدين ولا أستدين ، ولا أُميت لأحيا ؟
الموت : ليس الجواب على سؤالك هذا من شأني . فما أنا غير جابي الحياة ، والمعلّم الأكبر في مدرستها ، وغير رسولها . والذي أجبيه من الأحياء هو ما استدانوه من الأحياء . والذي أعلّمه النّاس هو أنّ ما يزول لا يدوم ، وما يدوم لا يزول . وأنا ما أزال بهم أطويهم ثمّ أنشرهم ، ثمّ أطويهم ثم أنشرهم ، إلى أن يتقنوا ذلك الدرس الأهمّ والأخير . ومتى أتقنوه وعاشوا به أصبحوا في غنىً عنّي . وإنّي لأحسبك في عداد تلامذتي النجباء .
الأرقش : وما هي رسالتك اليوم إلى الأرقش ؟
فناولني الموت ورقة مطويّة ما فتحتها حتى ارتعدت مفاصلي ، ومشت القشعريرة في بدني ، وجمد الدم في عروقي ، وانعقد لساني . لأن الذي قرأته في الورقة ما كان غير الكلمتين اللّتين قرأتهما في رسالة سنحاريب : (( اكتب وصيتك )) . . . وبعد جهدٍ ملكت روعي فعدت أساجل الموت :
الأرقش : وأيّة وصيّة تعني وليس لديّ ما أُوصي به لمخلوق ؟
الموت : لديك نفسك فابذلها .
الأرقش : ولمن أبذلها ؟
الموت : لنفسك .
الأرقش : أبذل نفسي لنفسي ؟ لست أفهم .
الموت : تخلّ عن نفسك الزائلة لنفسك الدائمة .
الأرقش : إذن تريد من الأرقش أن يمحو الأرقش ؟
الموت : بل أريد من الأرقش أن يصبح القوّة التي تمحو ولا تُمحَى .
الأرقش : لقد محوت الكثير من حياتي إذ محوت اسمي من سجلات النّاس . ولقد صُمت عن الكلام ، وعن اللحم والدم ، وعن الكثير من لذاذات النفس والجسد . فماذا تريدني أن أمحو بعد ؟
الموت : امحُ الأرقش الذي ما يزال عرضة للنموّ والانحلال .
الأرقش : قل لي . ما السرّ في أن الألم رفيق ملازم للموت ؟ ويقيني أنّك لولا الألم الذي تلمس به كلّ ما تلمس لما كنتَ مكروهاً من النّاس إلى حدّ كرههم لك .
الموت : إنّما أكشف الألم المخزون في النّاس ولا أخزنه فيهم . فالنّاس يخزنون اللذّة . ومن شأن اللذّة المخزونة أن تتحوّل ألما ، لأنها مبتاعة بالألم . ولا شأن لي على الإطلاق في ما تخزنه أو يخزنه سواك من النّاس . فليعرف النّاس ماذا يخزنون .
الأرقش : ومِن ثمّ فما الحكمة ــ حكمتك ــ في تعجيلك مع البعض وتأجيلك مع الآخر ، كأن تذهب بطفل في مهده وتتماهل مع أخيه إلى شيخوخة طويلة ؟
الموت : لست سوى المنفّذ الأمين لما يقضيه النّاس لأنفسهم أو عليها . فهم ما ينفكّون في تبادل وتفاعل دائمين مع الكون ، يشتهون أشياء ، ويُعرضون عن أشياء ، ويتلفون أشياء ؛ مثلما يبغضون بعض النّاس ، ويحبّون بعض النّاس ، ويقاتلون بعض النّاس . وهكذا يقضون لأنفسهم وعلى أنفسهم بنتائج تحتمها أعمالهم وشهواتهم وهم لا يعلمون . أمّا الحياة فتعلم ما يجهلون . وما من طفل إلّا كان قبل أن يولد ، وكان له مع الحياة حساب .
الأرقش : لقد سامرتني أيّها الموت . وإنّي لك من الشاكرين . ولقد حاسبتني فما عرفت بعد رصيد حسابي .
الموت : اكتب وصيتك .
الأرقش : وإن لم أكتبها ؟
* * *
ما هذه الخرخرة ، ومن أين ؟ . . هذا أنت يا رفيقي الأمين ؟ لقد عاد رفيقي ، فمرحباً به . وهو يدور من حولي ويترقب سانحة ليقفز إلى حضني . تعالَ يا رفيقي ، تعالَ . مغفورة لك خطاياك . لقد أدبر الموت منذ أقبلتَ . فما أجملك سميراً ، وما أعذبك مرنّماً ! أما سمعت ما قاله الموت : مَن استطاب لحم الجرذان استطابت لحمه الثعالب ؟
رفيقي : لقد خدعك الموت . فما همّي من الثعالب ما دام في الأرض فئران وجرذان ؟
أنا : أما تكره الموت ؟
رفيقي : وكيف أكره الموت وأنا الموت ؟ أما رأيتَ ما فعلته بالجرذ ؟ وعضّةٌ من فخذ جرذ سمين لهَديّةٌ يقدّمها إليّ الموت لو شئت أن أثمنّها لما استطعت .
أنا : لعلّك تحبّ الموت لغيرك وتكرهه لنفسك ؟
رفيقي : من غير شك . وإلّا لكنت هرّاً أبله .
أنا : إذن أنت تكره الموت وتحبّه في آن معاً .
رفيقي : وأي عجب في ذلك ؟ فالموت موتان : موت ننزله بالغير ، وموت ينزله الغير بنا . موت نحيا به ، وموت يحيا بنا . حتى الموت في حاجة إلى الحياة . إذ لا حياة للموت إلّا بالحياة . ولولاها لما كان .
أنا : أتكون الحياة في حاجة إلى الموت كذلك ؟
رفيقي : من غير شك . فهي تحيا به . ولولاه لما كانت . والحياة حياتان : حياة نُحييها . وحياة تُحيينا . ونظرة من عين هرّة كحلاء ، وقد التهبت أحشاؤها شوقاً إلى ما فيّ من بذور الحياة ، لهديّة تقدّمها إليّ الحياة تفوق كلّ أثمان الأرض .
أنا : لأنت أحذق لساناً من الموت . ولكنّك ما قلت لي بعد : ماذا تفعل بالموت إذا جاءك الموت ؟
رفيقي : أموت .
أنا : وبأوجاع الموت ؟
رفيقي : أتحمّلها .
أنا : وبما ينتظرك بعد الموت : أفناء هو أم بقاء ؟
رفيقي : ذلك من شأن الموت لا من شأني . والذي أقدّره أن موتاً ربّاني لن ينساني .
أنا : أمّا أنا يا رفيقي فيؤلمني أن أحيا بآلام غيري وأن يحيا غيري بآلامي . فالألم هو عدوّي وعدوّ النّاس الأكبر ، ولعلّه المنبّه الأعظم من حياة الألم إلى حياة لا يطالها الألم . لذاك أنشد تلك الحياة . أتحسبني أنشد ماء في سراب ؟
رفيقي : قد يكون السراب أنفع للظمإ من الماء .
أنا : قد يكون . قد يكون . وهل كتبتَ وصيّتك ؟
* * *
أفقت في الصباح والقلم بين أصابعي ، ورأسي على المنضدة أمامي ، والمصباح ما يزال يشتعل ، وبين شفتيّ هاتان الكلمتان :
اكتب وصيّتك !















عرض البوم صور علي الموصلي   رد مع اقتباس
قديم 2021-07-18, 10:09 PM   المشاركة رقم: 13
المعلومات
الكاتب:
علي الموصلي
اللقب:
:: مدآفع عن أهل السنة ::
الرتبة:

البيانات
التسجيل: Jun 2021
العضوية: 6270
المشاركات: 1,686 [+]
معدل التقييم: 40
نقاط التقييم: 50
علي الموصلي will become famous soon enough

الإتصالات
الحالة:
علي الموصلي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : علي الموصلي المنتدى : الادب العربي
افتراضي رد: نصوص أدبية ( روائع )

ميخائيل نعيمة ... سبعون

يا لسحر تلك الليلة التي أمضيتها وحدي على ضفة ذلك النهر الصغير ، ولا سمير لي إلّا حفيف الأوراق ، وخرير الماء ، وهمسات النسمات العابرات ، ومغامزات الدراري الحالمات ، ودقّات قلبي المطمئن ، وجذل الحياة في دمّي النشوان ! في مثل هذه السكينة يطيب للنفس أن تستحمّ وتستجمّ .
في هذا الكوخ الصغير تلتقي نيويورك وبسكنتا ، وبولتافا وسياتل ، والشخروب وساحات القتال في فرنسا ، وفاريا ومادلين وبيلّا وكوتيا وهاري ، وشعراء الجاهليّة وأعضاء الرابطة القلميّة ، وألف صورة وصورة ، وألف ذكرى وذكرى . فتنسجم جميعها أبدع الإنسجام ، حتّى لتبدو وكأنّها نسيج واحد حاكته يد واحدة على منوال واحد . فلا تنافر بين خيط وخيط ، وبين لون ولون ، لا ضجيج ولا عجيج ، ولا ظفر ولا ناب . لا معابد تُضاء فيها الشموع ويُحرق البخور ، ولا أوجار يفحّ فيها الفحش والفجور .
ههنا ليس من يكيلني بمكيال ، أو يزنني بميزان ، أو يقيسني بمقياس . فأنا والعوالم التي في داخلي ومن حواليّ عالم واحد تضيع فيه البدايات والنهايات ، وتتلاشى المسافات وتتعطّل جميع المكاييل والموازين والمقاييس ، وقيمتي فوق ما يحصيه عقلي ، ويدركه خيالي .
لكأنّني في هذا الكوخ المتوحّد في الجبال ألاقي نفسي من جديد ، فأُسَرّ بها وتُسرّ بي كما لم يُسرّ أبداً عاشقان يتلاقيان بعد فراق طويل .
وإذا بي أفاجأ بضغط شديد على صدري فأشعر أنّ قلبي يوشك أن يتوقف عن النبض ويشتدّ الضغط إلى حدّ أن لا يبقى عندي أي شكّ في أنّني مائت لا محالة . فلا أضطرب ولا أجزع ، بل أستقبل الموت برباطة جأش غريبة ، وأهتف بصوت عال
God ! I’m ready
ومعناه أنّني مستعدّ يا الله ! ويوقظني صوتي من غفوتي ، وإذا بي مستلقٍ على ظهري وذراعي اليمنى على صدري ! .
ما دمت تعرف قيمة الحياة لنفسك فكيف تنكرها على غيرك ؟ وما دمت تكره الألم لنفسك ، فكيف تنزله بسواك ؟!













عرض البوم صور علي الموصلي   رد مع اقتباس
قديم 2021-07-18, 10:14 PM   المشاركة رقم: 14
المعلومات
الكاتب:
علي الموصلي
اللقب:
:: مدآفع عن أهل السنة ::
الرتبة:

البيانات
التسجيل: Jun 2021
العضوية: 6270
المشاركات: 1,686 [+]
معدل التقييم: 40
نقاط التقييم: 50
علي الموصلي will become famous soon enough

الإتصالات
الحالة:
علي الموصلي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : علي الموصلي المنتدى : الادب العربي
افتراضي رد: نصوص أدبية ( روائع )

ميخائيل نعيمة .... سبعون نص - 2

أعرف أنّ الإنسان يشقى بتفكيره إذا هو لم يلق جواباً مقنعاً على كل سؤال يطرحه على نفسه . إذا كان الفكر عاجزاً عن حل المشكلات التي يثيرها ، فمن أين قدرته على إثارتها ؟ ولماذا عناده في معالجتها ؟ وأمله الذي لا يموت في الوصول إلى حلول لها ؟ .
الناس طبقات فوق طبقات من حيث مقدرتهم على التفكير وعنادهم في ملاحقة أيّ فكر من أفكارهم ، فبين الذين في أسفل والذين أعلى مثلما بين الأرض والسماء . أولئك أفكارهم في بطونهم وظهورهم وجيوبهم ، وهؤلاء جيوبهم وظهورهم وبطونهم في أفكارهم .
التقمّص ، معناه أنّ كلّ من يموت يعود بعد فترة من الزمن فيولد من جديد ، كما تفعل الحبّة بالتمام . فهي تموت لتولد حبّة من جديد ، أي تولد في جسد جديد يهيأ لك جسماً تقتضيه أعمالك وميولك ومواهبك وعلاقاتك التي حملتها معك عند الموت من حياتك الحاضرة .
إنّه النظام القاضي بأن تحصد مثلما تزرع . فمن زرع الزؤان حصد الزؤان ، ومن زرع القمح حصد القمح ، الخير بالخير والشرّ بالشرّ ، حتّى النيّات والأفكار تخضع للنظام . فأيّ العدل هو عدل الله يضرب جنيناً في بطن أمّه بالعمى أو البكم أو بالكساح أو البله ، ويمنح الآخر القوّة والعبقرية والجمال !؟ .
فمن مات وبه ميل يطغى على باقي ميوله عاد إلى الأرض فكان ذلك الميل أبرز مواهبه . إنّك تنام ليلك ثمّ تفيق فلا تذكر إلّا القليل القليل من أحلامك ، وقد لا تذكر منها شيئاً ، فكيف بك تنام نوم الموت ، وتنتقل من جسد إلى جسد ، ومن حال إلى حال . وهناك الذين يذكرون ، والذين يروون حكايات حيوات سابقة ، ولكنّ الناس لا يُصدّقون .
وعلى قدر ما استغربت العقيدة واستهجنتها في بدء حديثنا عنها ، وجدتني كلّما تماديت في الأسئلة ، وتبسّط رفيقي في الأجوبة والشرح ، أفتح لها عقلي وقلبي أوسع فأوسع . حتّى أنّني أذهلت عندما رحت أفسّر حياتي على ضوء تلك العقيدة ، فحسبي منها أنّها ردّت إليّ إيماني بقدرة شاملة منظمّة عادلة محبّة ، لا محاباة في نظامها ولا زيف ، أنّها عوّضتني عن فكرة (( الخطيئة الجدّية )) أو (( الدينونة الرهيبة )) .
ولأنّ المعرفة لا تكون معرفة إلّا إذا لم يبق لديها أيّ مجهول ، ولأنّ تلك المعرفة يستحيل بلوغها في خلال عمر واحد مهما طال ، فالعقيدة قد جعلت العمر حركة موصولة تتخلّلها فترات انتقال من جسد إلى جسد ، ومن حال إلى حال ، وهي الفترات التي ندعوها (( الموت )) .
علامَ لا يفسح الله للإنسان مجالاً للمعرفة غير سنوات معدودات ، والزمان كلّه في قبضته . فكيف يريدنا الله أن ندخل مدرسة الحياة لننتهي منها في عقدين أو ثمانية عقود من السنين بشهادة تخوّلنا (( ملكوته السماوي )) و (( فسيح جنانه )) وإلّا فمصيرنا إلى الهاوية حيث النار لا تنطفئ . وأيّ بأس على العقيدة في أنّ (( العلم )) لا يقرّها ، وماذا يعرف العلم ، إنّه لا يزال في أول طريقه من درس المحسوسات .
إن يكن للعالم مختبره ، فنفسي هي مختبري . وإن أمضى العالم في مختبره بضع ساعات من يومه ، فنفسي معي في الليل والنهار ، وأنا أُجري فيها اختباراتي في كلّ دقيقة من حياتي ، وهي تسجّل كلّ ما اختبره بدقّة أين منها دقّة الأجهزة الكهربائية والالكترونية .
خُلاصة القول إنّ عقيدة تُكرّر الاختبار بتكرّر الأعمار بغية المعرفة الكاملة والحريّة المثلى باتت الركيزة الكبرى التي تقوم عليها فلسفة حياتي ، فالحياة أكثر من مهزلة تبتدئ في المهد وتنتهي في اللحد لتعود فتتجدّد إمّا في غبطة أبديّة ، أو في عذاب أبديّ . والإنسان أكثر من أُلعوبة في يد القدر ، وحتّى في يد الله . إنّه الشرارة الإلهيّة المغلّفة بشتّى الغُلَف والمتوهّجة توهّجاً لا ينقطع ولا ينفكّ يحرق تلك الغلف على مدى الزمان إلى أن ينطلق منها نوراً يملأ الزمان والمكان ، لذلك كانت الحرارة التي يبعثها فيها شوقنا إلى الجمال والمعرفة والحرية مقياس (( تقدّمنا )) .













عرض البوم صور علي الموصلي   رد مع اقتباس
قديم 2021-07-18, 10:17 PM   المشاركة رقم: 15
المعلومات
الكاتب:
علي الموصلي
اللقب:
:: مدآفع عن أهل السنة ::
الرتبة:

البيانات
التسجيل: Jun 2021
العضوية: 6270
المشاركات: 1,686 [+]
معدل التقييم: 40
نقاط التقييم: 50
علي الموصلي will become famous soon enough

الإتصالات
الحالة:
علي الموصلي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : علي الموصلي المنتدى : الادب العربي
افتراضي رد: نصوص أدبية ( روائع )

ميخائيل نعيمة ... سبعون نص -3

لقد كان من المسلّم به عند سكان لبنان في عهد المتصرفية أن روسيا هي الحامية التقليدية للروم ، وفرنسا للموارنة ، وبريطانيا للبروستانت والدروز ، وتركيا للمسلمين !.
كانت تُتلى الخطب الطنّانة والقصائد الرنّانة وكلّها يمجّد السلطان الغازي عبد الحميد خان . أي الجرائم كانت تُرتكب بحق أذواقنا وأفكارنا البريئة إذ يحملوننا على حفظ تلك الفسافس والترهات والأكاذيب وعلى تنغيمها أمام الجماهير ، وهذه واحدة :
(( حمداً لربّ العالمين ، قد قرب الفتح المبين ، فانهض وقل للخاشعين ، قوموا ! وضجّوا عالياً ! يا ربنا كن واقياً ، عبد الحميد الغازيا ، ملك سما وتعزّزا ، وعلى الملوك تميّزا ، وسطا وغزا ، بل غزا ، وغدا البشير مناديا ، في ظلّه كل الأمم ، رتعت وأمست في نِعمْ ، والذئب بات مع الغنم ، والطير أصبح شاديا ))
ذلك غيض من فيض ذلك النفاق الساخر الوقح الذي كُنّا نُحمل على الترنّم به غافلين عن أنّه السمّ يُدس لنا في الدسم . ثم أين كان لنا أن ندرك أنّ العثمانيين والأوروبيين بالسواء لم يكونوا في ديارنا غير مغتصبين .
لقد كلّفني فيما بعد جهداً ليس باليسير أن أنزع ذلك السمّ من دمي .. الكلمة الفاجرة المنافقة ، المرائية التي تعلن غير ما تضمر ، وتضمر غير ما تعلن ، ولا تخجل . لذلك كان همّي في أول عهدي بالكتابة ، أن أعلنها حرباً شعواء على النفاق في الأدب .
صحت في أول مقال نشرته (( الإخلاص )) ! ويا ليت لنا منه قدر حبّة خردل ، كلمة أصبحت عندنا (( كالخنفشار )) ، وفضيلة لم يبق لها من مكان في حياة جُبلت بالرياء والمداهنة والتزلّف وحبّ المجد الفارغ . وإلا فمن أين ميلي المبكّر إلى العزلة والانفراد والسكون حتى إنّ خالة لي كانت تلقّبني بـ "الست ساكتة" ، لقد كنت في الواقع أنفر من الضوضاء والعربدة والخصام ، فلا ألبث أن أترك الميدان وأمضي أفتّش عن خلوة على حافية ساقية .













عرض البوم صور علي الموصلي   رد مع اقتباس
قديم 2021-07-18, 10:21 PM   المشاركة رقم: 16
المعلومات
الكاتب:
علي الموصلي
اللقب:
:: مدآفع عن أهل السنة ::
الرتبة:

البيانات
التسجيل: Jun 2021
العضوية: 6270
المشاركات: 1,686 [+]
معدل التقييم: 40
نقاط التقييم: 50
علي الموصلي will become famous soon enough

الإتصالات
الحالة:
علي الموصلي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : علي الموصلي المنتدى : الادب العربي
افتراضي رد: نصوص أدبية ( روائع )

ميخائيل نعيمة ... من كتاب مرداد

ليس في المحبة من (( أكثر )) ولا من (( أقلّ )) . فساعة يخطر ببالكم أن تزِنوا المحبة أو أن تقيسوها تتسلل من قلوبكم تاركة وراءها ذكريات مُرّةً لا غير .
لا وليس في المحبة (( الآن )) و (( عندئذٍ ) ولا (( هنا )) أو (( هناك )) . فكل الفصول فصول للمحبة وكل الأماكن مساكن لائقة بها .
لا تعرف المحبة تخوماً وحواجز . فالمحبة التي تقف حائرة أمام أي تخم أو حواجز ليست جديرة بعد باسم المحبة .
لكَم سمعتكم تقولون إن المحبة عمياء . وأنتم تعنون أنها لا ترى عيباً في المحبوب . إنّ عمى كذلك العمى لهو أسمى درجات البصر . ألا ليتكم كنتم عمياناً إلى حدّ أن لا تبصروا عيباً في شيء !
كلّا . ليست المحبّة بالعمياء . بل إن لها عيناً تخترق كل الحُجُب . ولذلك لا تبصر من عيوب على الإطلاق . وأنتم عندما تطهّر المحبّة أبصاركم لن تستطيعوا أن تروا شيئاً غير جدير بمحبتكم . إنما تبصر العيبَ عينٌ محرومة من المحبة وملأى بالعيوب . وما العيوب التي تبصرها غير عيوبها .
المحبة تجمع . والبغض يفرّق . إنّ هذه الكميّة الهائلة من الصخر والتراب المعروفة بقمّة المذبح لو لم تكن ممسوكة معاً بيد المحبة لتطايرت شظايا في الفضاء . حتى أجسادكم ، على وهنها ، ما كانت لتتفكك لو كان لكم أن تحبّوا كل خليّة من خلايا محبة متوازية ، قوية ، خالصة .
المحبة سلام نشوان بألحان الحياة . والبغضاء حرب صاخبة بصرخات الموت . فأيّ الاثنين تختارون : أأن تحبوا فتكونوا في سلام دائم ؟ أم أن تبغضوا فتكونوا في حرب أبديّة ؟
إنما الأرض كلها تحيا فيكم . وإنما السموات وكل أجنادها حيّة فيكم . فأحبوا الأرض وكلّ الراضعين من ثديها إن أنتم شئتم أن تحبوا أنفسكم . وأحبوا السموات وكل أجنادها إن أنتم شئتم أن تكون لكم حياة .













عرض البوم صور علي الموصلي   رد مع اقتباس
قديم 2021-07-18, 10:25 PM   المشاركة رقم: 17
المعلومات
الكاتب:
علي الموصلي
اللقب:
:: مدآفع عن أهل السنة ::
الرتبة:

البيانات
التسجيل: Jun 2021
العضوية: 6270
المشاركات: 1,686 [+]
معدل التقييم: 40
نقاط التقييم: 50
علي الموصلي will become famous soon enough

الإتصالات
الحالة:
علي الموصلي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : علي الموصلي المنتدى : الادب العربي
افتراضي رد: نصوص أدبية ( روائع )

ميخائيل نعيمة ...اليوم الأخير

في كلّ عام يغوص العِلم أعمق فأعمق في طلب ما هو متناهٍ في الصغَر ، مثلما يرتفع أعلى فأعلى نحو ما هو متناهٍ في الكِبَر . فشمسنا الّتي ليست في تلك العوالم الهائلة سوى نجمة متواضعة هي أثقل وزناً من الأرض بثلاثمائة ألف مرّة ، وفي عالمنا الشمسي مائة ألف مليون من أمثال تلك النجمة ، وهذه العوالم الشمسيّة لا يزال الكثير منها في طور التكوين . وذلك يزيد الشكّ في ما يعتقده بعضهم بوجود مسكونة ذات حدود في المكان والزمان .
أمّا أن يكون ذلك النظام عاقلاً أو غير عاقل ، أو أن يكون مادّة أو روحاً ، فجدل لا طائل تحته . إذ أنّنا ، حتّى اليوم ، لا نستطيع التفريق بين المادة والروح . فها هو العالم الّذي ذكرت ، وهو من أقحاح العلماء الماديّين يعترف بأنّ المتناهي في الصغر وفي الكبر لا يقف أيّ منهما عند حدّ . وعندئذٍ فالشيء الوحيد الثابت هو ذلك المجهول الّذي في استطاعته أن يصغر إلى ما لا نهاية وأن يكبر إلى ما لا نهاية ، وليس يغيّر في طبيعته شيئاً أن ندعوه مادّة أو أن ندعوه روحاً .
أمّا الذّين أدركوا النظام فسايروه عن فهم وعن رضىً فهم القلّة المغبوطة . أولئك هم الّذين انكشفت في نفوسهم صورة الواحد الأحد ، جليّة ، صافيّة ، باهرة . فباتوا لا يتقاذفهم مدّ وجزر ، ولا يتصارع فيهم خير وشرّ . إنّهم يحيون في المطلَق وبالمطلق الّذي هو أبداً هو .
اليوم شعرت بأنّ نافذة جديدة على الحياة قد انفتحت في داخلي ، وأنّ الحياة التي أطلّ عليها من تلك النافذة حياة لا نهاية لما فيها من دهشة ونظام وجمال وكمال . أيكون انفتاح النافذة إيذاناً بانغلاقها ، أتكون الفاتحة في حياتي هي الخاتمة .
وها هي الفلسفات التي درستها ودرّستها حتى اليوم تنهار جميعها أمام صوت يهتف بي في المنام (( قم ودّع اليوم الأخير )) !













عرض البوم صور علي الموصلي   رد مع اقتباس
قديم 2021-07-18, 10:28 PM   المشاركة رقم: 18
المعلومات
الكاتب:
علي الموصلي
اللقب:
:: مدآفع عن أهل السنة ::
الرتبة:

البيانات
التسجيل: Jun 2021
العضوية: 6270
المشاركات: 1,686 [+]
معدل التقييم: 40
نقاط التقييم: 50
علي الموصلي will become famous soon enough

الإتصالات
الحالة:
علي الموصلي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : علي الموصلي المنتدى : الادب العربي
افتراضي رد: نصوص أدبية ( روائع )

ميخائيل نعيمة .. في حضن الطبيعة

تمرّ بي أيام يضيق فيها صدري بكل ما حواليّ . فبيتي ليس بيتي . إنه لَسجن رهيب تضغط عليّ جدرانه وأرضه وسقفه وأثاثه فتكاد تسحقني سحقاً . وهذه الكتب التي تتحوّطني من كل جانب ، والتي أفنيت عمري في مصاحبتها ، تبدو لعيني كما لو كانت قوارير فارغة من كل شيء إلّا الفراغ . حتى القلم ، ذلك الرفيق الأمين ، المطيع ، الوفي ــ يحرُن في يدي . فكأن بينه وبين قلبي وفكري هوّة كالتي بين الأرض والسماء . وأهلي ليسوا بأهلي . انهم لقوم لا تربطني بهم أيّ صلة غير صلة الجوار .
في مثل تلك الأيام تنقضّ على عيني رؤى ، وتساور أذني أصوات من عالم لا جدران فيه ولا سقوف ، ولا كتب وأقلام ، ولا بشر ركبتهم الهواجس والهموم ، واستوطنت نفوسَهم شتى النزوات والمشكلات . وإذا في كل قطرة من دمي مهماز . وإذا بي ، في خلال دقائق معدودات ، أهيم في دنيا من السحر والفتنة ، ابكمُها خطيب مصقع ، ومُقعدها مجنّح ، وأعماها بصير مُبدع ، ومواتها آهل بكل عجيبة .
انها البريّة !
ههنا تعدو الديمة ، ويدبّ الجُعَل ، وتمرح النسائم ، وتتهامس الأعشاب ، وتتراقص الأشجار ، وتحلم الصخور ، ويحبل التراب ويولّد ، ويغنّي العصفور ، ويثرثر الينبوع ، ويقرقر الجدول ، وترعى الشاة ، ويقفز الجدي ، وتنشر الشمس وشاحاً من الدفء والنور فوق كل شيء .
ههنا يد الإنسان المكفوفة إلى حد بعيد . فلا هو بالآمر ولا بالناهي . ولا قيمة على الإطلاق لقوانينه وتقاليده ، ولا مجال لمشكلاته ومخرقاته ، ولا من يأبه بقيله وقاله .
ههنا دنيا لا بيع فيها ولا شراء ، ولا قضاة ومحامين ، ولا سياسة وسياسيين ، ولا سجون ومساجين ، ولا كهّان ومصلّين .
ههنا ليس غير المبدع الذي لا حدّ لخياله ولا لقدرته بداية أو نهاية .
ما أن تحويني البرية حتى يأخذ سحرها يدبّ في فكري وقلبي دبيبَ السلافة في الدم ، والنعاس في الجفن . فيطفر القلب من بين الضلوع ليزحف على التراب مع الكائنات التي تسعى إلى رزقها بغير أرجل ، وليدبّ مع التي لا أجنحة لها ، وليمطتي الهواء مع ذوات الجناح ، وليلثم تلك العشبة أو هذه الزهرة ، أو ليفتش مع هاتيك العصفورة عن طعام تزقّ به فراخها .
ويتيه الفكر في هذه الفكرة الهائلة من الأشكال والألوان ، والروائح والأصوات ، والسكنات والحركات ، وفي الغاية منها ، والمسالك المتعددة ، المتشابكة التي تسلكها لتحقيق تلك الغاية .
أما الخيال فيخرّ ساجداً أمام جبروت القدرة التي تخيّلت هذه الأشياء كلها ثم قالت لها : (( كوني ! )) فكانت ، والتي لا تنفكّ تغيّر وتبدّل فيها فتدفعها أمواجاً متلاحقة بغير انقطاع . فلا هي تفنى . ولا هي تستقرّ على حال . وتبدو ، مع ذلك ، كما لو كانت في منتهى الاستقرار . فكأنها هي هي عاماً تلو عام ، وجيلاً بعد جيل . وكأن استقرارها في عدم استقرارها .
لكم سألت نفسي عن السرّ في الانشراح الذي يشعر به أكثر الناس في حضرة الطبيعة ــ أين مكمنه ؟ أهو فيما تقع عليه العين ، أو تصطاده الأذن ، أو يشمّه الأنف ، أو تتحسّسه اليد ؟ أم هو في انسجام هذه كلها انسجاماً يصبو إليه الإنسان بكل جوارحه ويتعذر عليه الإتيان بمثله في حياته البيتية والسياسية والاجتماعية ؟ فليس في الطبيعة أشياء تستطيع أن تقول أنها في غير مكانها . ولا فيها أشكال تتنافر . وألوان تتشاكس . مثلما ليس فيها حركات لا تتواقت وتتواقع ، أو أصوات يمكنك أن تحسبها نشازا لو كان لك أن تسمعها لا بمفردها بل ضمن جوقة الطبيعة الكاملة .
أم ان اغتباطنا بما تبسطه الطبيعة لأبصارنا ، وتعزفه لآذاننا هو في انفلاتنا ــ ولو إلى حين ــ من القيود الكثيرة التي تفرضها علينا حياتنا في شتّى الميادين ، وفي الانعتاق من الملل الذي يتسرب إلى نفوسنا من جراء الأعمال التي نقوم بها يوماً بعد يوم وعاماً تلو عام ؟
والذي يبدو لي هو أننا نطمئن إلى الطبيعة لأسباب كثيرة . منها التي ذكرت . ولكنها ليست الأهم . أما الأهم فهو ان الطبيعة مسيّرة في كل حركاتها وسكناتها . في حين نحن مسيَّرون ، ولكن إلى حد . ومخيّرون ولكن إلى حد كذلك . والذي يسيّر الطبيعة هو الذي يختار لها الطرق التي تسير فيها ، والأشكال التي تتلبسها ، والألوان التي تتزين بها . وهو من المهارة في فنّه حيث لا يستطيع أن يرقى فكرنا ، مهما صفا ، أو خيالنا مهما كان وثاباً . لذلك يسحرنا فنه ونحس قصورنا الفادح تجاهه .
والفنان الذي يختار للطبيعة أشكالها وألوانها والسُبل التي تسير عليها هو عينه الذي يختار لنا اشكالنا وألواننا وسبلنا . ولكنه لحكمة لم ندركها بعد ، قد اختار أن تكون في حياتنا قوة الاختيار . ولذلك وهَبنا القدرة على التفكير والتخيّل والتمييز والإرادة . وهي هبة غالية لم يُجد بمثلها على الطبيعة العجماء . إلّا انها تنطوي على مسؤولية . والمسؤولية عبء ثقيل لمن لا يحسن القيام بها . ولأننا لا نحسن القيام بها حتى الآن ترانا نحسد الذين بغير مسؤولية ، ونستشعر شيئاً من الراحة والطمأنينة والغبطة في رفقتهم . تلك هي حالنا مع صغار الكائنات من كل نوع ــ مع أطفالنا ، ومع صغار الحيوان ، وفراخ الطير . وتلك هي حالنا مع الصخر والتراب والنبات وكل ما على الأرض والفضاء . ونحن عندما نكون في خلوة مع الطبيعة تنصرف أفكارنا عن مسؤولياتنا وعن حياة تعقدت نظُمها وعاداتها وتقاليدها ، واختلطت علينا متطلباتها فما ندري أيها التافه وأيها المهم ، أو أيها الصالح وأيها الطالح .
ان ما يسحرنا في الطبيعة ، بالإضافة إلى ما فيها من وفرة الأشكال وبديع الهندسة ، هو امتثالها العفوي الكامل لمشيئة لا طاقة لها على معاندتها ، ثم خلوّها التام من فكرة الخير والشر وضرورة الاختيار ما بينهما ، وما يرافق ذلك الاختيار من حيرة وقلق وشك وتردد ، وإقدام وإحجام ، وندامة وتقريع ضمير إذا نحن أسأنا الاختيار . وهذه الاتكالية المطلقة من جانب الطبيعة تبدو لنا وكأنها تسخر بعنادنا وبكل محاولة نقوم بها لتطويع النظام لإرادتنا بدلا من تطويع إرادتنا للنظام . فنتمنّى لو كنا بغير فكر ، وبغير إرادة ووجدان ، وبالتالي بغير مسؤولية ، شأننا في ذلك شأن أطفالنا الرضّع ، وشأن كل خليقة دون الإنسان .
ذلك ، في الغالب ، هو الشعور الذي يسطو علينا عندما نكون في خلوة مع الطبيعة . فتتعطل معه مقاييسنا ، وتتخدر همومنا ، وتخفّ أوزارنا ، وتكاد تتلاشى مسؤولياتنا . فنتذوق مثل غبطة الطفل يمتص ثدي أمه ولا يساوره أقل شك في أنه كلما جاع سيجد ذلك الثدي في انتظاره . إلّا اننا لا نلبث أن نصحو من نشوتنا . وإذا بنا نسأل من جديد : ما هذا ؟ ومن أين ؟ وإلى أين ؟ ولماذا ؟ وإذا بنا نحس في أعماقنا شوقاً هاصراً إلى الإجابة على تلك الأسئلة ، وإذا بخيالنا يصفّق بجناحيه ويمضي يشقّ أبعاد الزمان والمكان ، وإذا بإرادتنا تنتفض وتعلن بمنتهى الجد والحرارة : لغيري أن يستسلم عن ضعف وعن جهل . أما أنا ، وإن نهشني الألم ورضّضني الموت ، فلن استسلم ما دام فوق قدرتي قدرة ، وفوق معرفتي معرفة . بل سأجعل من الألم مفتاح الطمأنينة . ومن الموت عبّارة إلى الحياة .
وفي ذلك ، لعمري ، سر عظمة الإنسان . انه يريد أن يعرف . وسيعرف . ويريد أن يتغلّب . ولسوف يتغلّب .













عرض البوم صور علي الموصلي   رد مع اقتباس
قديم 2021-07-18, 10:31 PM   المشاركة رقم: 19
المعلومات
الكاتب:
علي الموصلي
اللقب:
:: مدآفع عن أهل السنة ::
الرتبة:

البيانات
التسجيل: Jun 2021
العضوية: 6270
المشاركات: 1,686 [+]
معدل التقييم: 40
نقاط التقييم: 50
علي الموصلي will become famous soon enough

الإتصالات
الحالة:
علي الموصلي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : علي الموصلي المنتدى : الادب العربي
افتراضي رد: نصوص أدبية ( روائع )

ميخائيل نعيمة .... دروب \ زاد المعاد

من كان ذا نفس كبيرة كان أنبل من أن يغتاب أحداً من الناس أو أن ينمّ على أحد من الناس . فالغيبة والنميمة أقذار لا يستطيب التغلغل في أجوافها النّتنة والانتشاء بروائحها الكريهة إلا صغار النفوس . وهؤلاء قد يكونون من أعرق العيال حسباً ، أو من أرفع الناس مركزاً ، أو من أوفرهم ثروةً ، أو من أبعدهم شهرة في دنيا العلم والفنّ والسياسة والدين والاجتماع ، ويكون ما بينهم وبين النبل من شاسع البون مثل ما بين الأرض وزحل .
ومن كان ذا نفس كبيرة كان أبعد الناس عن التبجّح . فما تبجّح إنسان بقوّة بدنيّة أو عقليّة ، أو بمال أو عقار ، أو بنسبٍ أو جاه ، أو بشهرة أو بسلطان إلّا لأن في نفسه الصغيرة جوعاً إلى العظمة الحقّة التي تأبى الانقياد إليه ، فيحاول أن يبتزّها من الغير ابتزازاً ــ ولو بقوّة حنكه ولسانه .
ومن كانت نفسه كبيرة أبت عليه أن يظهر أمام الناس على غير حقيقته . فما خجل بجهله بين العلماء ، ولا بفقره بين الأثرياء ، ولا بضعفه بين الأقوياء . وإن هو كان على شيء من العلم والثروة والقوّة ما زها بذلك على الجهلاء والفقراء والضعفاء ، بل على العكس ، قلّل من قيمة هذه الأشياء مخافة أن يخجل منه الجاهل والفقير والضعيف . أمّا الذين صغرت نفوسهم فيسيرون في الأرض بوجوه ليست وجوههم ، وألسنة ليست ألسنتهم ، ولباس ليس لباسهم . فهم أبداً يُبْطنون غير ما يُظهرون ، وينطقون بغير ما يفكّرون ويشعرون ، ويُسعدهم أن ينخدع الناس بما يُظهرون عمّا يُبطنون .
والذي نفسه كبيرة لا يكبر على أيّ إنسان ، ولا يذلّ لأيّ إنسان . فهو يعلم أن كرامته لا تُصان إلّا إذا هو صان كرامة الغير ، وأن كرامة تقوم على مذلّة الغير لمَذلّة في ثوب الكرامة . وهو يأبَى على كرامته أن تكون تاجاً من نسيج العنكبوت تعبث به نفخة ريح عابرة قد لا تكون أكثر من كلمة طائشة ، أو حركة نابية تأتيه من حسود أو نمّام أو عدوّ ــ أو من صديق حميم . ولذلك لا يقابل الكلمة الطائشة بكلمة طائشة ، ولا الحركة النابية بحركة نابية . ولا هو يحسد حاسديه ويعادي الذين يعادونه ، ويشمت بالذين يشمتون به . فنفسه أسمى من أن تنحدر إلى مثل هذه الصغائر ، وأنقى من أن تتمرّغ في مثل هذه الأوحال .













عرض البوم صور علي الموصلي   رد مع اقتباس
قديم 2021-07-18, 10:34 PM   المشاركة رقم: 20
المعلومات
الكاتب:
علي الموصلي
اللقب:
:: مدآفع عن أهل السنة ::
الرتبة:

البيانات
التسجيل: Jun 2021
العضوية: 6270
المشاركات: 1,686 [+]
معدل التقييم: 40
نقاط التقييم: 50
علي الموصلي will become famous soon enough

الإتصالات
الحالة:
علي الموصلي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : علي الموصلي المنتدى : الادب العربي
افتراضي رد: نصوص أدبية ( روائع )

ميخائيل نعيمة .. من كتاب البيادر

ها هم الذين لفظتهم حروفاً حيّة في اسمك الحيّ الذي لا يُلفَظ ما يفتأون يصلون الحروف بالحروف ، والمقاطع بالمقاطع ، ويزوّجون الكلمات من الكلمات ويؤلفون منها الأحاديث والأساطير والأسفار . فلا تكلّ لهم شفاه ، ولا تحرُنُ لهم أقلام ، ولا تتخدّر منهم أنامل ، وكلماتهم أكثر ما تكون دخاناً لأبصارهم ، وفخاخاً لأقدامهم ، وسموماً لدمائهم ، ومناخز تقض عليهم مضاجعهم وتعبث بأحلامهم ، والبريء منها ما كان كاليعسوب ، لا عسل في فمه ولا إبرة في دبره .
أما الكلمة التي تضمد جرحاً ، وتفكّ قيداً ، وتمزّق غشاوة ، والكلمة التي تجمع ولا تفرّق ، وتجبر ولا تكسر ، وتفتح ولا تغلق ، والكلمة التي تشفع ولا تصفع ، وتصفح ولا تنبح ، وتعين ولا تدين فما أندرها ! وأندر منها كلمة في يائها ألِف وفي ألفها ياء ــ طليقة من أحابيل البدايات والنهايات حيث بنوك يتخبطون وعنك يا ألفاً هي الياء ، وياءً هي الألف ، يصدفون .
أعداد فوق أعداد ، وحروف ومقاطع وكلمات بعد حروف ومقاطع وكلمات ، وكلُّها سواد ، وظلمات طي ظلمات .
فإلى مَ ، إلى مَ هذا الليل يا واحداً لا يُعَدّ ، ويا ألفاً لا تُمثَّل ، وياءً لا تُصَوَّر ؟













عرض البوم صور علي الموصلي   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
كتب أدبية وتاريخية ودينية متنوعة علي الموصلي المنتدى العام 0 2021-06-27 08:21 PM
نصوص من نفائس شيخ الإسلام ابن تيمية في ذم الرافضة الصديق الوفي المنتدى الاسلامي العام 4 2016-07-14 04:14 AM
طرفة أدبية نعمان الحسني القصص والامثال 6 2013-11-26 08:46 PM
مصطلحات أدبية ( النثر الفني ) محب العراق الادب العربي 3 2013-09-26 02:27 AM


الساعة الآن 03:56 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2023, vBulletin Solutions, Inc.